الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الملل والنحل **
أرباب الديانات والملل من المسلمين وأهل الكتاب وممن له شبهة كتاب نتكلم ههنا في معنى الدين والملة والشرعية والمنهاج والإسلام والحنيفية والسنة والجماعة فإنها عبارات وردت في التنزيل ولكل واحدة منها معنى يخصها وحقيقة توافقها لغة واصطلاحا وقد بينا معنى الدين: أنه الطاعة والانقياد وقد قال الله تعالى: " والطريق الخاص الذي يوصل إلى هذه الهيئة هو المنهاج الشرعة والسنة. والاتفاق على تلك السنة هي الجماعة قال الله تعالى: " وقد قيل: إن الله عز وجل أسس دينه على مثال خلقه ليستدل بخلقه على دينه وبدينه على خلقه. قد ذكرنا معنى الإسلام. ونفرق ها هنا بينه وبين الإيمان والإحسان ونبين: ما المبدأ وما الوسط وما الكمال - بالخبر المعروف في دعوة جبريل عليه السلام حيث جاء على صورة أعرابي وجلس حتى ألصق ركبته بركبة النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " يا رسول الله! ما الإسلام " فقال: " أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم شهر رمضان ويحج البيت إن استطعت إليه سبيلا " قال: " صدقت " ثم قال: " ما الإيمان " قال عليه السلام: " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك " قال: " صدقت ". ثم قال: " متى الساعة " قال عليه السلام: " ما المسئول عنها بأعلم من السائل ". ثم قام وخرج فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم ". ففرق في التفريق بين الإسلام والإيمان. والإسلام قد يرد بمعنى الاستسلام ظاهرا ويشترك فيه المؤمن والمنافق. قال الله تعالى: " قالت الأعراب آمنا: قل: لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا " ففرق التنزيل بينهما. فإذا كان الإسلام بمعنى التسليم والانقياد ظاهراً موضع الاشتراك فهو المبدأ. ثم إذا كان الإخلاص معه بأن يصدق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويقر عقداً بأن القدر خيره وشره من الله تعالى بمعنى أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه كان مؤمناً حقاً. ثم إذا جمع بين الإسلام والتصديق وقرن المجاهدة بالمشاهدة وصار غيبه شهادة فهو الكمال. فكان الإسلام: مبدأ والإيمان: وسطاً والإحسان: كمالاً. وعلى هذا شمل لفظ المسلمين: الناجي والهالك. وقد يرد الإسلام وقرينه الإحسان قال الله تعالى: " بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن " يحمل قوله تعالى: " ورضيت لكم الإسلام ديناً " وقوله: " والله أعلم. أهل الأصول المختلفون في: التوحيد والعدل والوعد والوعيد والسمع والعقل. نتكلم ها هنا في معنى الأصول: معرفة الباري تعالى بوحدانيته وصفاته ومعرفة الرسل بآياتهم وبيناتهم. وبالجملة: كل مسألة يتعين الحق فيها بين المتخاصمين فهي من الأصول. ومن المعلوم أن الدين إذا كان منقسماً إلى معرفة وطاعة والمعرفة أصل والطاعة فرع فمن تكلم في المعرفة والتوحيد كان أصولياً ومن تكلم في الطاعة والشريعة كان فروعياً. فالأصول: هو موضوع علم الكلام والفروع: هو موضوع علم الفقه. وقال بعض العقلاء: كل ما هو معقول ويتوصل إليه بالنظر والاستدلال فهو من الأصول. وكل ما هو مظنون ويتوصل إليه بالقياس والاجتهاد فهو من الفروع. وأما التوحيد فقد قال أهل السنة وجميع الصفاتية: إن الله تعالى واحد في ذاته: لا قسيم لهن وواحد في صفاته الأزلية: لا نظير له، وواحد في أفعاله: لا شريك له، وقال أهل العدل: إن الله تعالى واحد في ذاته: لا قسمة ولا صفة له، وواحد في أفعاله: لا شريك له فلا قديم غير ذاته: ولا قسيم له في أفعاله ومحال وجود قديمين ومقدور بين قادرين وذلك هو التوحيد. وأما العدل فعلى مذهب أهل السنة أن الله تعالى عدل في أفعاله بمعنى أنه متصرف في ملكه وملكه: يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. فالعدل: وضع الشيء موضعه وهو التصرف في الملك على مقتضى المشيئة والعلم والظلم بضده فلا يتصور منه جور الحكم وظلم في التصرف. وعلى مذهب أهل الاعتزال:العدل: ما يقتضيه العقل من الحكمة وهو إصدار الفعل على وجه الصواب والمصلحة. وأما الوعد والوعيد فقد قال أهل السنة: الوعد والوعيد كلامه الأزلي وعد على ما أمر وأوعد ما نهى فكل من نجا واستوجب الثواب فبوعده وكل من هلك واستوجب العقاب فبوعيده فلا يجب عليه شيء من قضية العقل. وقال أهل العدل: لا كلام في الأزل وإنما أمر ونهى ووعد وأوعد بكلام محدث فمن نجا فبفعله استحق الثواب ومن خسر فبفعله استوجب العقاب والعقل من حيث الحكمة يقتضي ذلك. وأما السمع والعقل فقد قال أهل السنة: الواجبات كلها بالسمع والمعارف كلها بالعقل. فالعقل لا يحسن ولا يقبح ولا يقتضى ولا يوجب والسمع لا يعرف أي لا يوجد المعرفة بل يوجب. وقال أهل العدل: المعارف كلها معقولة بالعقل واجبة بنظر العقل وشكر المنعم واجب قبل ورود السمع والحسن والقبح: صفتان ذاتيتان للحسن والقبيح. فهذه القواعد هي المسائل التي تكلم فيها أهل الأصول. وسنذكر مذهب كل طائفة مفصلاً إن شاء الله تعالى. ولكل علم موضوع ومسائل نذكرهما بأقصى الإمكان إن شاء الله تعالى. المعتزلة وغيرهم: من الجبرية والصفاتية والمختلطة منهم. الفريقان من: المعتزلة والصفاتية: متقابلا نتقابل التضاد وكذلك: القدرية والجبرية والمرجئة والوعيدية والشيعة والخوارج. وهذا التضاد بين كل فريق وفريق كان حاصلاً في كل زمان ولكل فرقة: مقالة على حيالها. وكتب صنفوها ودولة عاونتهم وصولة طاوعتهم. ويسمون: أصحاب العدل والتوحيد ويلقبون بالقدرية والعدلية. وهم قد جعلوا لفظ القدرية مشتركاً وقالوا: لفظ القدرية يطلق على من يقول بالقدر خيره وشره من الله تعالى إحترازاً من وصمة اللقب إذ كان من الذم به متفقاً عليه لقول النبي عليه السلام: " القدرية مجوس هذه الأمة ". وكانت الصفاتية تعارضهم: بالاتفاق على أن الجبرية والقدرية متقابلتان تقابل التضاد فكيف يطلق لفظ الضد على الضد وقد قال النبي عليه السلام: " القدرية: خصماء الله في القدر " والخصومة في القدر وانقسام الخير والشر على ما فعل الله وفعل العبد لن يتصور على مذهب من يقول بالتسليم والتوكل وإحالة الأحوال كلها على القدر المحتوم والحكم المحكوم. والذي يعم طائفة المعتزلة من الاعتقاد: القول بأن الله تعالى قديم والقدم أخص وصف ذاته ونفا الصفات القديمة أصلاً فقالوا: هو عالم بذاته قادر بذاته حي بذاته لا بعلم وقدرة وحياة: هي صفات قديمة ومعان قائمة به لأنه لو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخص الوصف لشاركته في الإلهية. واتفقوا على أن كلامه محدث مخلوق في محل وهو حرف وصوت كتب أمثاله في المصاحف حكايات عنه فإن ما وجد في لمحل عرض قد فنى في الحال. واتفقوا على أن الإرادة والسمع والبصر: ليست معاني قائمة بذاته لكن اختلفوا في وجوه وجودها ومحامل معانيها كما سيأتي. واتفقوا على نفي رؤية الله تعالى بالأبصار في دار القرار ونفى التشبيه عنه من كل وجه: ومكانا وصورة وجسماً وتحيزاً وانتقالاً وزوالاً وتغيراً وتأثراً وأوجبوا تأويل الآيات المتشابهة فيه. وسموا هذا النمط: توحيداً. واتفقوا على أن العبد قادر خالق لأفعاله خيرها وشرها مستحق على ما يفعله ثواباً وعقاباً في الدار الآخرة. والرب تعالى منزه أن يضاف إليه شر وظلم وفعل هو كفر ومعصية لأنه لو خلق الظلم كان ظالماً كما لو خلق العدل كان عادلاً. واتفقوا على أنه الله تعالى لا يفعل إلا الصلاح والخير ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد. وأما الأصلح واللطف ففي وجوبه خلاف عندهم. وسموا هذا النمط: عدلاً. واتفقوا على أن المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة: استحق الثواب والعوض والتفضل معنى آخر وراء الثواب. وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها: استحق الخلود في النار لكن يكون عقابه أخف من عقاب الكفار. وسموا هذا النمط: وعدا ووعيداً. واتفقوا على أن أصول المعرفة وشكر النعمة: واجبة قبل ورود السمع والحسن والقبح يجب معرفتهما بالعقل واعتناق الحسن واجتناب القبيح واجب كذلك. وورود التكاليف ألطاف للباري تعلى أرسلها إلى العباد بتوسط الأنبياء عليهم السلام: امتحاناً واختباراً " ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ". واختلفوا في الإمامة والقول فيها: نصاً واختباراً كما سيأتي عند كل طائفة. والآن نذكر ما يختص بطائفة طائفة من المقالة التي تميزت بها عن أصحابها. أصحاب أبي حذيفة واصل بن عطاء الغزال الألثغ كان تلميذاً للحسن البصري يقرأ عليه العلوم الأخبار وكانا في أيام عبد الملك بن مروان وهشام بن عبد الملك. وبالمغرب في أيام أبي جعفر المنصور. ويقال لهم: الواصلية. واعتزالهم يدور على أربعة قواعد: القاعدة الأولى: القول بنفي صفات الباري تعالى من العلم والقدرة والإرادة والحياة. وكانت هذه المقالة في بدئها غير نضيجة وكان واصل بن عطاء يشرع فيها على قول ظاهر وهو الاتفاق على استحالة وجود إلهين قديمين أزليين قال: " ومن أثبت معنى وصفة قديمة فقد أثبت إلهين ". وإنما شرعت أصحابه فيها بعد مطالعة كتب الفلاسفة وانتهى نظرهم فيها إلى رد جميع الصفات إلى كونه: عالماً قادراً ثم الحكم بأنهما صفتان ذاتيتان هما: اعتباران للذات القديمة كما قال الجبائي أو حالان كما قال أبو هاشم. وميل أبو الحسين البصري إلى ردهما إلى صفة واحدة وهي العالمية وذلك عين مذهب الفلاسفة وسنذكر تفصيل ذلك. وكان السلف يخالفهم في ذلك إذ وجدوا الصفات مذكورة في الكتاب والسنة. القاعدة الثانية: القول بالقدر: وغنما سلكوا في ذلك مسلك معبد الجهني وغيلان الدمشقي. وقرر واصل بن عطاء هذه القاعدة أكثر مما كان يقرر قاعدة الصفات فقال إن الباري تعالى حكيم عادل لا يجوز أن يضاف إليه شر ولا ظلم ولا يجوز أن يريد من العباد خلاف ما يأمرن ويحتم عليهم شيئاً ثم يجازيهم عليه فالعبد هو الفاعل للخير والشر والإيمان والكفر والطاعة والمعصية وهو المجازى على فعله والرب تعالى أقدره على ذلك كله. وأفعال العباد محصورة في: الحركات والسكنات والاعتمادات والنظر والعلم قال: ويستحيل أن يخاطب العبد بالفعل وهو لا يمكنه أن يفعل ولا هو يحس من نفسه الاقتدار والفعل ومن أنكره فقد أنكر الضرورة واستدل بآيات على هذه الكلمات. ورأيت رسالة نسبت إلى الحسن البصري كتبها إلى عبد الملك بن مروان وقد سأله عن القول بالقدر والجبر فأجابه فيها بما يوافق مذهب القدرية واستدل فيها بآيات من الكتاب ودلائل من العقل ولعلها لواصل ابن عطاء فما كان الحسن ممن يخالف السلف في أن القدر خيره وشره من الله تعالى فإن هذه الكلمات كالمجمع عليها عندهم. والعجب! أنه حمل هذا اللفظ الوارد في الخبر على: البلاء والعافية والشدة والرخاء والمرض والشفاء والموت والحياة إلى غير ذلك من أفعال الله تعالى دون: الخير والشر والحسن والقبيح الصادرين من اكتساب العباد. وكذلك أورده جماعة من المعتزلة في المقالة عن أصحابهم. القاعدة الثالثة: القول بالمنزلة بين المنزلتين والسبب فيه أنه دخل واحد على الحسن البصري فقال: يا إمام الدين! لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة وهم وعيدية الخوارج وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان بل العمل على مذهبهم ليس ركناً من الإيمان ولا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة وهم مرجئة الأمة فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً فتفكر الحسن في ذلك وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول: صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً بل هو في منزلة بين المنزلتين: لا مؤمن ولا كافر ثم قام واعتزل إلى اسطوانة من اسطوانات المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن فقال الحسن: اعتزل عنا واصل فسمي هو وأصحابه: معتزلة. ووجه تقريره انه قال: إن الإيمان عبارة عن خصال خير إذا اجتمعت سمى المرء مؤمناً وهو اسم مدح والاسم لم يستجمع خصال الخير ولا استحق اسم المدح فلا يسمى مؤمناً وليس هو بكافر مطلقا أيضاً لأن الشهادة وسائر أعمال الخير موجودة فيه لا وجه لإنكارها لكنه إذا خرج من الدنيا على كبيرة من غير توبة فهو من أهل النار خالداً فيها إذ ليس في الآخرة إلا فريقان: فريق في الجنة وفريق في السعير لكنه يخفف عنه العذاب وتكون دركته فوق دركة الكفار. وتابعه على ذلك عمرو بن عبيد بعد أن كان موافقاً له في القدر وإنكار الصفات. القاعدة الرابعة: قوله في الفريقين من أصحاب الجمل وأ صحاب صفين: إن أحدهما مخطئ بعينه وكذلك قوله في عثمان وقاتليه وخاذليه. قال: إن أحد الفريقين فاسق لا محالة كما أن أحد المتلاعنين فاسق لا محالة لكن لا بعينه وقد عرفت قوله في الفاسق وأقل درجات الفريقين أنه لا تقبل شهادتهما كما لا تقبل شهادة المتلاعنين فلم يجوز قبول شهادة علي وطلحة والزبير على باقة بقل وجوز أن يكون عثمان وعلي على الخطأ. هذا قولهَ! وهو رئيس المعتزلة ومبدأ الطريقة في أعلام الصحابة وأئمة العترة. ووافقه عمرو بن عبيد على مذهبه وزاد عليه في تفسيق أحد الفريقين لا بعينه بأن قال: لو شهد رجلان من أحد الفريقين مثل علي ورجل من عسكره أو طلحة والزبير: لم تقبل شهادتهما وفيه تفسيق الفريقين وكونهما من أهل النار. وكان عمرو بن عبيد من رواة الحديث معروفاً بالزهد. وواصل مشهوراً بالفضل والأدب الهذيلية أصحاب أبي الهذيل حمدان بن الهذيل العلاف: شيخ المعتزلة ومقدم الطائفة ومقرر الطريقة والمناظر عليها أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل بن عطاء. ويقال: أخذ واصل بن عطاء عن أبي هاشم عبد الله بن محمد الحنفية ويقال: أخذه عن الحسن بن أبي الحسن البصري. وإنما انفرد عن أصحابه بعشر قواعد: الأولى: أن الباري تعالى عالم بعلمه وعلمه بذاته قادر بقدرة وقدرته ذاته حي بحياة وحياته ذاته. وإما اقتبس هذا الرأي من الفلاسفة الذين اعتقدوا: أن ذاته واحدة لا ثرة فيها بوجه وإنما الصفات ليست وراء الذات معاني قائمة بذاته بل هي ذاته وترجع إلى أسلوب أو اللوازم كما سيأتي. والفرق بين قول القائل: عالم بذاته لا بعلم وبين قول القائل: عالم بعلم هو ذاته أن الأول نفى الصفة والثاني إثبات ذات هو بعينه صفة أو إثبات صفة هي بعينها ذات. وإذ أثبت أبو الهذيل هذه الصفات وجوهاً للذات فهي بعينها أقانيم النصارى أو أحوال أبي هاشم. الثانية: أنه أثبت إرادات لا محل لها يكون الباري تعالى مريداً بها. وهو أول من أحدث هذه المقالة وتابعه عليها المتأخرون. الثالثة: قال في كلام الباري تعالى: إن بعضه لا في محل وهو قوله كن وبعضه في محل كالأمر والنهي والخبر والإستخبار. وكأن أمر التكوين عنده غير أمر التكليف. الرابعة: قوله في القدر مثل ما قاله أصحابه إلا أنه قد ري الأولى جبري الآخرة فإن مذهبه في حركات أهل الخلدين في الآخرة: أنها كلها ضرورية لا قدرة للعباد عليها وكلها مخلوقة للباري تعالى إذ كانت مكتسبة للعباد لكانوا مكلفين بها. الخامسة: قوله إن حركات أهل الخلدين تنقطع وإنهم يصيرون إلى سكون دائم خموداً وتجتمع للذات قي ذلك السكون لأهل الجنة وتجتمع الآلام في ذلك السكون لأهل النار. وهذا قريب من مذهب جهم: إذ حكم بفناء الجنة والنار. وإنما التزم أبو الهديل هذا المذهب لأنه لما ألزم في مسألة حدوث العالم: أن الحوادث التي لا أول لها كالحوادث التي لا آخر لها إذ كل واحدة لا تتناهى قال: إني لا أقول بحركات لا تتناهى آخراً كما لا أقول بحركات لا تتناهى أولاً بل يصيرون إلى سكون دائم وكأنه ظن أن ما لزمه في الحركة لا يلزمه في السكون. السادسة: قوله في الاستطاعة: إنها عرض من الأعراض غير السلامة والصحة وفرق بين أفعال القلوب وأفعال الجوارح فقال لا يصح وجود أفعال القلوب منه مع عدم القدرة فالاستطاعة معها في حال الفعل. وجوز ذلك في أفعال الجوارح وقال بتقدمها فيفعل بها في الحال الأولى وإن لم يوجد الفعل إلا في الحالة الثانية قال: فحال يفعل غير حال فعل. ثم ما تولد من فعل العبد فهو فعله غير اللون والطعم والرائحة ما لا يعرف كيفيته. وقال في الإدراك والعلم الحادثين في غيره عند إسماعه وتعليمه: إن الله تعالى يبدعهما فيه وليسا من أفعال العباد. السابعة: قوله في المكلف قبل ورود السمع: إنه يجب عليه أن يعرف الله تعالى بالدليل من غير خاطر وإن قصر في المعرفة استوجب العقوبة أبداً ويعلم أيضاً حسن الحسن وقبح القبيح فيجب عليه الإقدام على الحسن كالصدق والعدل والإعراض عن القبيح كالكذب والجور. وقال أيضاً بطاعات لا يراد بها الله تعالى ولا يقصد بها التقرب إليه كالقصد إلى النظر الأول والنظر الأول فإنه لم يعرف الله بعد والفعل عبادة وقال في المكره: إذا لم يعرف التعريض والتورية فيما أكره عليه فله أن يكذب ويكون وزره موضوعاً عنه. الثامنة: قوله في الآجال والأرزاق: إن الرجل إن لم يقتل مات في ذلك الوقت ولا يجوز أن يزاد في العمر أو ينقص. والأرزاق على وجهين: أحدهما: ما خلق الله تعالى من الأمور المنتفع بها يجوز أن يقال خلقها رزقاً للعباد فعلى هذا من قال: إن أحداً أكل أو انتفع بما لم يخلقه الله رزقاً فقد أخطأ لما فيه: أن في الأجسام ما لم يخلقه الله تعالى. والثاني: ما حكم الله به من هذه الأرزاق للعباد فما أحل منها فهو رزقه وما حرم فليس رزقاً أي ليس مأموراً بتناوله. التاسعة: حكى الكعبي عنه أنه قال: إرادة الله غير المراد فإرادته لما خلق: هي خلقه له وخلقه للشيء عنده غير الشيء بل الخلق عنده قول لا في محل. وقال إنه تعالى لم يزل سميعاً بصيراً بمعنى سيسمع وسيبصر وكذلك لم يزل: غفوراً رحيماً محسناً خالقاً رازقاً معاقباً موالياً معادياً آمراً ناهياً بمعنى أن ذلك سيكون منه. العاشرة: حكى الكعبي عنه أنه قال: الحجة لا تقوم فيما غاب إلا بخبر عشرين فيهم واحد من أهل الجنة أو أكثر ولا تخلو الأرض عن جماعة هم فيها أولياء الله: معصومون لا يكذبون ولا يرتكبون الكبائر فهم الحجة لا التواتر إذ يجوز أن يكذب جماعة ممن لا يحصون عدداً إذا لم يكونوا أولياء الله ول يكن فيهم واحد معصوم. وصحب أبا الهذيل أبو يعقوب الشحام والآدمي وهما على مقالته. وكان سنه مائة سنه توفي في أول خلافة المتوكل سنة خمس وثلاثين ومائتين. أصحاب إبراهيم بن سيار بن هانئ النظام قد طالع كثيراً من كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة وانفرد عن أصحابه بمسائل: الأولى مها: أنه زاد على القول بالقدر خيره وشره منا قوله: إن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على الشرور والمعاصي وليست هي مقدورة للباري تعالى خلافاً لأصحابه فإنهم قضوا بأنه غير قادر عليها لكنه لا يفعلها لأنها قبيحة. ومذهب النظام: أن القبح إذا كان صفة للقبيح وهو المانع من الإضافة إليه فعلاً ففي تجويزك وقوع القبيح منه قبح أيضاً فيجب أن يكون مانعاً ففاعل العدل لا يوصف بالقدرة على الظلم. وزاد أيضاً على هذا الإختباط فقال: إنما يقدر على فعل ما يعلم أن فيه صلاحا لعباده ولا يقدر على أن يفعل بعباده في الدنيا ما ليس في صلاحهم هذا في تعلق قدرته بما يتعلق بأمور الدنيا وأما أمور الآخرة فقال: لا يوصف الباري تعالى بالقدرة على أن يزيد في عذاب أهل الجنة ولا أن يخرج أحداً من أهل الجنة وليس ذلك مقدوراً له. وقد ألزم عليه: إن يكون الباري تعالى مطبوعاً مجبوراً على ما يفعله فإن القادر على الحقيقة: من يتخير بين الفعل والترك فأجاب: إن الذي ألزمتموني في القدرة يلزمكم في الفعل فإن عندكم يستحيل إن يفعله وإن يفعله وإن كان مقدوراً فلا فرق. وإنما أخذ هذه المقالة من قدماء الفلاسفة حيث قضوا بأن الجواد لا يجوز أن يدخر شيئا لا يفعله فما أبدعه وأوجده هو المقدور ولو كان في علمه تعالى ومقدوره ما هو أحسن وأكمل مما أبدعه: نظاماً وترتيباً وصلاحاً لفعله. الثانية: قوله في الإرادة: إن الباري تعالى ليس موصوفاً بها على الحقيقة فإذا وصف بها شرعاً في أفعاله فالمراد بذلك: أنه خالقها ومنشئها على حسب ما علم وإذا وصف بكونه مريداً لأفعال العباد فالمعنى به أنه آمر بها وناه عنها. وعنه أخذ الكعبي مذهبه في الإرادة. الثالثة: قوله: إن أفعال العباد كلها حركات فحسب والسكون حركة اعتماد والعلوم والإرادات حركات النفس ز لم يرد بهذه الحركة حركة النقلة وإنما الحركة عنده مبدأ تغير ما كما قالت الفلاسفة: من إثبات حركات في الكيف والكم والوضع والأين والمتى إلى أخواتها. الرابعة: وافقهم أيضاً في قولهم: إن الإنسان في الحقيقة هو النفس والروح والبدن آلتها وقالبها. غير أنه تقاصر عن إدراك مذهبهم فمال إلى قول الطبيعيين منهم: إن الروح جسم لطيف مشابك للبدن مداخل للقالب بأجزائه مداخلة المائية في الورد والهنية في السمسم والمينة في اللبن وقال: إن الروح هي التي لها: قوة واستطاعة وحياة ومشيئة وهي مستطيعة بنفسها والاستطاعة قبل الفعل. الخامسة: حكى الكعبي عنه أنه قال: إن كل ما جاوز حد القدرة من الفعل فهو من فعل الله تعالى بإيجاب الخلقة أي إن الله تعالى طبع الحجر طبعاً وخلقه خلقة إذا دفعته اندفع وإذا بلغت قوة الدفع مبلغها عاد الحجر إلى مكانه طبعاً. وله في الجواهر وأحكامها خبط ومذهب يخالف. السادسة: وافق الفلاسفة في نفي الجزء الذي لا يتجزأ. وأحدث القول بالطفرة لما ألزم مشى نملة على صخرة من طرف إلى طرف أنها قطعت ما لا يتناهى فكيف يقطع ما يتناهى ما لا يتناهى قال: تقطع بعضها بالمشي وبعضها بالطفرة وشبه ذلك بحبل شد على خشبة معترضة وسط البئر طوله خمسون ذراعاً علق عليه معلاق فيجر به الحبل المتوسط فإن الدلو يصل إلى رأس البئر وقد قطع مائة ذراع بحبل طوله خمسون ذراعاً في زمان واحد وليس ذلك إلا أن بعض القطع بالطفرة ولم يعلم أن الطفرة قطع مسافة أيضاً موازية لمسافة فالإلزام لا يندفع عنه وإنما الرق بين المشي والطفرة يرجع إلى سرعة الزمان وبطئه. السابعة: قال: إن الجواهر مؤلفة من أعراض اجتمعت ووافق هشام بن الحكم في قوله: أن الألوان والطعوم والروائح أجسام فتارة يقضي بكون الأجسام أعراضاً وتارة يقضي بكون الأعراض أجساماً لا غير. الثامنة: من مذهبه: أن الله تعالى خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن: معادن ونباتاً وحيواناً وإنساناً ولم يتقدم خلق آدم عليه السلام خلق أولاده غير أن الله تعالى أكمن بعضها في بعض فالتقدم والتأخر إنما يقع في ظهورها من مكامنها دون حدوثها ووجودها. وإنما أخذ هذه المقالة من أصحاب الكمون والظهور من الفلاسفة. وأكثر ميله - أبداً - إلى تقرير. التاسعة: قوله في إعجاز القرآن: إنه من حيث الإخبار عن الأمور الماضية والآتية ومن جهة صرف الدواعي عن المعارضة ومنع العرب عن الاهتمام به جبراً وتعجيزاً حتى لو خلاهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله: بلاغة وفصاحة ونظماً. العاشرة: قوله في الإجماع: إنه ليس بحجة في الشرع وكذلك القياس في الأحكام الشرعية لا يجوز أن يكون حجة وإنما الحجة في قول الإمام المعصوم. الحادية عشرة: ميله إلى الرفض ووقيعته في كبار الصحابة قال: أولاً: لا إمامة إلا بالنص والتعيين ظاهراً أو مكشوفاً وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على علي رضي الله عنه في مواضع وأظهره إظهاراً لم يشتبه على الجماعة إلا أن عمر كتم ذلك وهو الذي تولى بيعة أبي بكر يوم السقيفة. ونسبه إلى الشك يوم الحديبية في سؤاله الرسول عليه السلام حين قال: ألسنا على الحق أليسوا على الباطل قال: نعم قال عمر: فلم نعطي الدنية في ديننا قال: هذا شك وتردد في الدين ووجدان حرج في النفس مما قضى وحكم. وزاد في الفرية فقال: إن عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى ألقت الجنين من بطنها وكان يصيح: أحرقوا دارها بمن فيها وما كان في الدار غير علي وفاطمة والحسن والحسين. وقال: تغريبه نصر بن لحجاج من المدينة إلى البصرة وإبداعه التراويح ونهيه عن متعة الحج ومصادرته العمال. كل ذلك أحداث. ثم وقع في أمير المؤمنين عثمان وذكر أحداثه: من رده الحكيم بن أمية إلى المدينة وهو طريد رسول الله عليه السلام ونفيه أبا ذر إلى الربذة وهو صديق رسول الله وتقليده الوليد بن عقبه الكوفة وهو من أفسد الناس ومعاوية الشام وعبد الله بن عامر البصرة وتزويجه مروان بن الحكم ابنته وهم أفسدوا عليه أمره وضربه عبد الله بن مسعود على إحضار المصحف وعلى القول الذي شاقه به. كل ذلك أحداثه. ثم زاد على خزيه ذلك بأن عاب علياً وعبد الله بن مسعود لقولهما: أقول فيها برأيي وكذب ابن مسعود في روايته: السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه وفي روايته: انشقاق القمر وفي تشبيهه الجن بالزط وقد أنكر الجن رأساً. إلى غير ذلك من الوقيعة الفاحشة في لصحابة رضي الله عنهم أجمعين. الثانية عشرة: قوله في المفكر قبل ورود السمع: أنه إذا كان عاقلاً متمكناً من النظر يجب عليه تحصيل معرفة الباري تعالى بالنظر والاستدلال. وقال بتحسين العقل وتقبيحه في جميع ما يتصرف فيه من أفعاله. وقال: لا بد من خاطرين أحدهما يأمر بالإقدام والآخر بالكف ليصح الاختيار. الثالثة عشرة: قد تكلم في مسائل العد والوعيد. وزعم أن من خان في مائة وتسعين درهماً بالسرقة أو الظلم لم يفسق بذلك حتى تبلغ خيانته نصاب الزكاة وهو مائتا درهم فصاعداً فحينئذ يفسق وكذلك في سائر نصب الزكاة وقال في المعاد: إن الفضل على الأطفال كالفضل على البهائم. ووافقه الأسواري في جميع ما ذهب إليه وزاد عليه بأن قال: إن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على ما علم أنه لا يفعله ولا على ما أخبر أنه لا يفعله: مع أن الإنسان قادر على ذلك لأن قدرة العبد صالحة للضد ين ومن المعلوم أن أحد الضد ين واقع في المعلوم أنه سيوجد دون الثاني. والخطاب لا ينقطع عن أبي لهب وإن أخبر الرب تعالى بأنه: سيصلى ناراً ذات لهب. ووافقه أبو جعفر الإسكافي وأصحابه من المعتزلة. وزاد عليه بأن قال: إن الله تعالى لا يقدر على ظلم العقلاء وإنما يوصف بالقدرة على ظلم الأطفال والمجانين. وكذلك الجعفران: جعفر بن مبشر وجعفر بن حرب وافقاه وما زادا عليه إلا أن جعفر بن مبشر قال: في فساق الأمة من هو شر من الزنادقة والمجوس وزعم أن إجماع الصحابة على حد شارب الخمر كان خطأ إذ المعتبر في الحدود: النص والتوقيف. وزعم أن سارق الحبة الواحدة فاسق منخلع عن الإيمان. وكان محمد بن شبيب وأبو شمر وموسى بن عمران: من أصحاب النظام إلا أنهم خالفوه في الوعيد وفي المنزلة بين المنزلتين: وقالوا: صاحب الكبيرة لا يخرج من الإيمان بمجرد ارتكاب الكبيرة. وكان ابن مبشر يقول في الوعيد: إن استحقاق العقاب والخلود في النار بالفكر يعرف قبل ورود السمع. وسائر أصحابه يقولون: التخليد لا يعرف إلا بالسمع. ومن أصحاب النظام: الفضل الحدثي وأحمد بن خابط. قال الرواندي: إنهما كانا يزعمان أن للخلق خالقين: أحدهما قديم وهو الباري تعالى والثاني محدث وهو المسيح عليه السلام لقوله إذ تخلق من الطين كهيئة الطير ". وكذبه لكعبي في رواية الحدثي خاصة لحسن اعتقاده فيه. الخابطية: أصحاب احمد بن خابط وكذلك الحثية أصحاب الفضل الحدثي: كانا من أصحاب النظام وطالعا كتب الفلاسفة أيضاً وضما إلى مذهب النظام ثلاث بدع: البدعة الأولى: إثبات حكم من أحكام الإلهية في المسيح عليه السلام موافقة النصارى على اعتقادهم: أن المسيح هو الذي يحاسب الخلق في الآخرة وهو المراد بقوله تعالى: " وهو الذي يأتي ظلل من الغمام وهو المعني بقوله تعالى: " أو يأتي ربك ". وهو المراد بقول النبي عليه السلام: " إن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن ". وبقوله: " يضع الجبار قدمه في النار ". وزعم أحمد بن خابط: أن المسيح تدرع بالجسد الجسماني وهو الكلمة القديمة المتجسدة كما قالت النصارى. البدعة الثانية: القول بالتناسخ: زعما أن الله تعالى أبدع خلقه: أصحاء سالمين عقلاء بالغين في دار سوى هذه الدار التي هم فيها اليوم وخلق فيهم معرفته والعلم به وأسبغ عليهم نعمته ولا يجوز أن يكون أول ما يخلقه إلا: عاقلاً ناظراً معتبراً وابتدأ هو بتكليف شكره فأطاعه بعضهم في جميع ما أمرهم به وعصاه بعضهم في جميع ذلك وأطاعه بعضهم في البعض دون البعض فمن أطاعه في الكل أقره في دار النعيم التي أبدأهم فيها ومن أطاعه في البعض وعصاه في البعض أخرجه إلى دار الدنيا فألبسه هذه الأجسام الكثيفة وابتلاه: بالبأساء والضراء والشدة والرخاء والآلام واللذات. على صور مختلفة من صمر الناس وسائر الحيوانات على قدر ذنوبهم فمن كانت معصيته أقل وطاعته أكثر كانت صورته أحسن وآلامه أقل ومن كانت ذنوبه أكثر كانت صورته أقبح وآلامه أكثر. ثم لا يزال يكون الحيوان في الدنيا: كرة بعد كرة وصورة بعد أخرى مادامت في زمانهما شيخ المعتزلة أحمد بن أيوب بن مانوس وهو أيضاً من تلامذة النظام وقال أيضاً مثل ما قال أحمد بن خابط في التناسخ وخلق البرية دفعة واحدة إلا أنه قال: متى صارت النوبة إلى البهيمية ارتفعت التكاليف ومتى صارت النوبة إلى رتبة النبوة والملك ارتفعت التكاليف أيضاً وصارت النوبتان عالم الجزاء. ومن مذهبهما أن الديار خمس داران للثواب إحداهما: فيها أكل وشرب وبعال وجنات وأنهار. والثانية: دار فوق هذه الدار ليس فيها أكل ولا شرب ولا بعال بل ملاذ روحانية وروح وريحان غير جسمانية. والثالثة: دار العقاب المحض وهي نار جهنم ليس فيها ترتيب بل هي على نمط التساوي. والرابعة: دار الابتداء التي خلق الخلق فيها قبل أن يهبطوا إلى دار الدنيا وهي الجنة الأولى. والخامسة: دار الابتلاء وهي التي كلف الخلق فيها بعد أن اجترحوا في الأولى. وهذا التكوير والتكرير لا يزال في الدنيا حتى يمتلئ المكيالان: مكيال الخير ومكيال الشر فإذا امتلأ مكيال لخير صار العمل كله طاعة والمطيع خيرا خالصاً فينقل إلى الجنة ولم يلبث طرفة عين فإن مطل الغنى ظلم وفي الحديث: " أعطوا الأجير أجره قبل إن يجف عرقه ". وإذا امتلأ مكيال الشر صار العمل كله معصية والعاصي شريراً محضاً فينقل إلى النار ولم يلبث طرفة عين وذلك قوله تعالى: فإذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولا يستفيدون. البدعة الثالثة: حملهما كل ما ورد في الخبر: من رؤية الباري تعالى مثل قوله عليه السلام: " إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته " على رؤية العقل الأول الذي هو أول مبدع وهو العقل الفعال الذي منه تفيض الصور على الموجودات وإياه على النبي عليه السلام بقوله: " أول ما خلق الله تعالى العقل فقال له: أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحسن منك! بك أعز وبك أذل وبك أعطي وبك أمنع فهو الذي يظهر يوم القيامة وترتفع الحجب بينه وبين الصور التي فاضت منه فيرونه كمثل القمر ليلة البدر فأما واهب العقل فلا يرى البتة. ولا يشبه إلا مبدع بمبدع. وقال ابن خابط إن كل نوع من أنواع الحيوانات أمة على حيالها لقوله تعالى: ولهما طريقة أخرى في التناسخ وكأنهما مزجا كلام التناسخية والفلاسفة والمعتزلة ببعضها البعض. أصحاب بشر بن المعتمر كان من أفضل علماء المعتزلة. وهو الذي أحدث القول بالتولد وأفرط فيه. وانفرد عن أصحابه بمسائل ست: الأولى منها: أنه زعم أن اللون والطعم والرائحة ز الإدراكات كلها: من السمع والرؤية. يجوز أن تحصل متولدة من فعل العبد إذا كانت أسبابها من فعله وإنما أخذ هذا من الطبيعيين إلا أنهم لا يفرقون بين المتولد والمباشر بالقدرة وربما لا يثبتون القدرة على منهاج المتكلمين. وقوة الفعل وقوة الانفعال: غير القدرة التي يثبتها المتكلم. الثانية: قوله: إن الاستطاعة: هي سلامة البنية وصحة الجوارح وتخليتها من الآفات وقال: لا أقول يفعل بها في الحالة الأولى ولا في الحالة الثانية لكني أقول: الإنسان يفعل والفعل لا يكون إلا... الثالثة: قوله: إن الله تعالى قادر على تعذيب الطفل ولو فعل ذلك كان ظالما إياه إلا أنه لا يستحسن أن يقال ذلك في حقه بل يقال: لو فعل ذلك كان الطفل: بالغاً عاقلاً عاصياً بمعصية ارتكبها مستحقاً للعقاب وهذا كلام متناقض. الرابعة: حكى الكعبي عنه أنه قال: إرادة الله تعالى: فعل من أفعاله وهي على وجهين: صفة ذات وصفة فعل: فأما صفة الذات فهي: أن الله تعالى لم يزل مريداً لجميع أفعاله ولجميع الطاعات من عباده فإنه حكيم ولا يجوز أن يعلم الحكيم صلاحاً وخيراً ولا يريده. وأما صفة الفعل فإن أراد بها فعل نفسه في حال إحداثه فهي خلقه له وهي قبل الخلق لأن ما به يكون الشيء لا يجوز أن يكون معه وإن أراد بها فعل عباده فهي: الأمر به. الخامسة: قال إن عند الله تعالى لطفاً لو أتى به لآمن جميع من في الأرض إيماناً يستحقون عليه الثواب استحقاقهم لو آمنوا من غير وجوده وأكثر منه وليس على الله تعالى أن يفعل ذلك بعباده. ولا يجب عليه رعاية الأصلح لأنه لا غاية لما يقدر عليه من الصلاح فما من أصلح إلا وفوقه أصلح وإنما عليه أن يمكن العبد القدرة والاستطاعة ويزيح العلل بالدعوة والرسالة. والمفكر قبل ورود السمع يعلم الباري تعالى بالنظر والاستدلال وإذا كان مختارا ًفي فعله فيستغني عن الخاطرين لأن الخاطرين لا يكونان من قبل الله تعالى وإنما هما من قبل الشيطان السادسة: قال: من تاب عن كبيرة ثم راجعها عاد استحقاقه العقوبة الأولى فإنه قبل توبته بشرط أن لا يعود.
|